نظريّة العلمانيّة عند عزمي بشارة | فصل

«نظريّة العلمانيّة عند عزمي بشارة – نقد السرديّات الكبرى للعلمنة والعلمانيّة» (2019)

 

في كتابه الصادر عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» بعنوان: «نظريّة العلمانيّة عند عزمي بشارة – نقد السرديّات الكبرى للعلمنة والعلمانيّة» (2019)، يتتبّع الباحث والكاتب المغربيّ مصطفى أيت خرواش مشروع المفكّر العربيّ عزمي بشارة «الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ»، لاهتمام المؤلّف بالمشروعات النقديّة الّتي قاربت إشكال الدين في العالم الإسلاميّ، وكذلك فرضيّة اعتبار سؤال الدين سؤالًا مستهلكًا لا يعبّر عن جوهر الإشكال الّذي تحاول جلّ هذه المشروعات حلّه، وضرورة دراسة أنماط الوعي وتطوّره وأنماط العلمنة الّتي تفرزه.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقدّمة الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

يُعَدّ هذا المؤلَّف تتويجًا لعمل مضنٍ قمنا به من خلال تتبّعنا لمشروع «الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ»، للمفكّر العربيّ عزمي بشارة، والصادر في جزأين بثلاثة مجلّدات عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات». يتناول بشارة في الجزء الأوّل من كتابه موضوع الدين والتديّن، ثمّ يتطرّق في الجزء الثاني من المجلّد الأوّل إلى العلمانيّة والعلمنة: الصيرورة الفكريّة. في حين يهتمّ في الجزء الثاني من المجلّد الثاني بموضوع العلمانيّة ونظريّات العلمنة.

يرجع سبب اهتمامنا بمشروع الدين والعلمانيّة عمومًا، إلى اعتبارين: يكمن أوّلهما في تتبّعنا عديد المشاريع النقديّة الّتي قاربت إشكال الدين في العالم الإسلاميّ، سواء تلك الّتي انتقدت الموروث الدينيّ من زاوية الإصلاح وإعادة النهوض، أم تلك الّتي انتقدت الدين بغرض التجاوز أو القطيعة الإبستيمولوجيّة. واستنتجنا ضخامة المجهود العلميّ المبذول لدراسة هذا الإشكال، لكن من دون أن يتجدّد الفكر الدينيّ ولا المجتمعيّ، ومن دون أن يحصل أيّ إصلاح دينيّ حقيقيّ. أمّا الاعتبار الثاني، فيتمحور حول فرضيّة اعتبار سؤال الدين سؤالًا مستهلكًا لا يُعَبِّر عن جوهر الإشكال الّذي تحاول جلّ هذه المشاريع حلَّه، وأنّه ربّما يجدر بنا دراسة أنماط الوعي وتطوّره، وكذا أنماط العلمنة الّتي تفرزه.

واجهَنا في المحصّلة إشكال بارز، يكمن (...) في اعتبارنا العلمانيّة حلًّا وجوديًّا، ومخاضًا ضروريًا لنشوء الدولة الحديثة القائمة على قيم الحرّيّة والديمقراطيّة ودولة المؤسّسات وحكم القانون...

كنّا قد بدأنا الاطّلاع على تجربة العلمنة والعلمانيّة في السياقات الأوروبّيّة، ورأينا فيها بداية أنّها وراء القفزة الّتي حقّقتها أوروبّا نحو النهضة والحداثة، عندما بدأت الثورات الدينيّة، وتبعها الإصلاح الدينيّ وظهور جهاز الدولة، ثمّ تطوّر العلم التجريبيّ. كلّ هذه الظواهر نتجت من عمليّة العلمنة التاريخيّة الطويلة الّتي حدثت في السياق الأوروبّيّ. واجهَنا في المحصّلة إشكال بارز، يكمن، من جهة، في اعتبارنا العلمانيّة حلًّا وجوديًّا، ومخاضًا ضروريًا لنشوء الدولة الحديثة القائمة على قيم الحرّيّة والديمقراطيّة ودولة المؤسّسات وحكم القانون.

لكنّ العلمانيّة، من جهة أخرى، شكّلت لدينا جميعًا كابوسًا وعدوًّا للهويّة الوطنيّة والانتماء الدينيّ، على اعتبار أنّنا جميعًا شهدنا تجارب عربيّة لاستقدام العلمانيّة وفرضها بمنطق الأيديولوجيا الحداثويّة، وما نتج منها من صدامات وصراعات أيديولوجيّة انتهت بفشلها، مثلما فشلت تجارب القوميّة والاشتراكيّة والوطنيّة والليبراليّة. من هذه المداخل، وصلنا إلى قناعة تعتبر أنّ العلمانيّة - مثلها مثل الليبراليّة والاشتراكيّة وغيرهما - اسْتُقْدِمَتْ أيديولوجيًّا بمعزل عن دخول المجتمع في صيرورة علمنة الوعي والمجتمع والدولة، وأنّه لا بدّ من إعادة فهم العلمانيّة خارج الأيديولوجيا والسرديّات الكبرى الّتي أُلْصِقَتْ بها.

 

العلمانيّة في سياق تاريخيّ 

جاء مشروع بشارة بعنوان «الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ»، ليعيد طرح إشكال العلمانيّة من زاوية نظر جديدة، وخصوصًا أنّه تزامن مع تحوّلات عميقة يشهدها الفضاء السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ العربيّ، على النحو الّذي جعل من موضوع العلمانيّة يبرز مجدّدًا. وهذا طبيعيّ بالنظر إلى ارتباط المفهوم عمليًّا بالثورات السياسيّة والثقافيّة الّتي عاشتها المجتمعات الّتي نَمت وترعرعت فيها فكرة العلمانيّة.

تكمن أهمّيّة الموضوع في محاولته العلميّة الرصينة إعادة فهم طبيعة تشكّل العلمانيّة في سياق تاريخيّ تراكميّ، وكذلك التعرّف إلى طرق عمل العلمنة في علاقتها بطرق عمل الدين والتديّن داخل المجتمعات، ثمّ في فهم العلمنة من منظور نظريّ تركيبيّ جديد. هذه التجربة المعرفيّة العميقة مع موضوع حسّاس مثل موضوع العلمانيّة، خصوصًا في المجتمعات الّتي تعرف درجة تديّن مرتفعة، وفي الدول الّتي تتماهى فيها السلطة السياسيّة مع السلطة الدينيّة، ستجعل لا محالة المجتمعات العربيّة الإسلاميّة المتديّنة، والنخب الأصوليّة المؤدلجة، والمؤسّسات الدينيّة التقليديّة، تراجع مواقفها التاريخيّة من العلمانيّة بما هي نظريّة تروم القضاء على الدين ومحو وجوده بين الأفراد والمؤسّسات والدول.

لقد كانت تجربة العلمانيّين العرب وهم يستقدمون العلمانيّة في سياقها الغربيّ كأنّها نظريّة مكتملة المعالم والشروط، ثمّ محاولين فرضها بقوّة الأيديولوجيا على مجتمعات لم تعرف بعد إرهاصات تشكّل العلمانيّة على المستوى السياسيّ والدينيّ والثقافيّ، صداميّة مع مجتمعات متديّنة، ودول استبداديّة، وفضاء ثقافيّ انغلاقيّ، ما جعلها تفشل منذ اللحظة الأولى.

 

مساءلة المشروع ومنهجه 

تحاول هذه القراءة في مشروع بشارة الربط بين نظم المشروع ومداخله وأقسامه، كي نصل في المحصّلة إلى مساءلة المشروع في علاقته بأسئلته ومنهجه وإجاباته المعرفيّة. ويأتي على رأس هذه المحدّدات سؤال الجدّة والممايزة، وقد شدّنا المشروع بتميّزه المنهجيّ وبتميّزه في الطرح والتناول، ثمّ في النتائج والمخرجات المعرفيّة الّتي تحصّل عليها. كما طرحنا سؤالًا حول مدى الإضافة العلميّة الّتي يقدّمها في موضوعه، وسؤال المباحث المعرفيّة الجديدة الّتي قد يفتحها المشروع للباحثين وما تفتحه من آفاق معرفيّة جديدة.

شَغَلَنا في البداية سؤال مهمّ ونحن نقوم بعمليّة القراءة في مشروع بشارة إبّان طرحه موضوع الدين والعلمانيّة، تمحور حول سبب طرحه هذا المشروع، خصوصًا في هذه الظرفيّة السياسيّة الّتي تمرّ بها المجتمعات والدول العربيّة الحاليّة. وقد افترضنا، من خلال مراجعتنا الجزء الأوّل من الكتاب الّتي نُشِرَت في مجلّة «تبيّن للدراسات الفكريّة والثقافيّة»[1]، الصادرة عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، أنّ سبب طرحه للمشروع هو في وعيه بارتباط العلمانيّة عمليًّا بالثورات السياسيّة والثقافيّة الّتي تعرفها المجتمعات، باعتبارها أحد وجوه العلمنة المتعدّدة الّتي تبدأ بعلمنة الدين والفكر والمجتمع ثمّ الدولة.

هل طرح بشارة موضوع العلمانيّة حلًّا لأزمة الدولة العربيّة، خصوصًا بعد تعاقب مشاريع الدولة الوطنيّة والقوميّة والاشتراكيّة والشموليّة؟ أم هو طرح بديل من مفهوم الدولة المدنيّة الّتي طُرِحَتْ بديلًا من الدولة الدينيّة؟

لكن، ونحن نحاول قراءة المشروع في صيغته النهائيّة على الأقلّ، توسّعنا في الفرضيّات الممكنة، وطرحنا عديد الأسئلة الممكنة: هل طرح بشارة موضوع العلمانيّة حلًّا لأزمة الدولة العربيّة، خصوصًا بعد تعاقب مشاريع الدولة الوطنيّة والقوميّة والاشتراكيّة والشموليّة؟ أم هو طرح بديل من مفهوم الدولة المدنيّة الّتي طُرِحَتْ بديلًا من الدولة الدينيّة، خصوصًا بعد تنامي المدّ الحركيّ الإسلاميّ المعتدل المدافع عن أطروحة الدولة المدنيّة في مقابل الدولة العلمانيّة، والراديكاليّ المنادي بالدولة الدينيّة ضدّ الدولة المدنيّة والعلمانيّة معًا؟ أم هي دعوة إلى فهم العلمانيّة بما هي حلّ وسط في وجه الصراع الأيديولوجيّ الدائر بين الإسلاميّين والحداثويّين العرب، أو بين المتديّنين وغير المتديّنين، بوصفه نوعًا من التأسيس لمبادئ العيش المشترك بما هو أحد أسس المجتمع الحديث؟

 

دراسة التديّن قبل العلمنة

يعتبر بشارة هذا المؤلَّف مقدّمة لمشروع شغل فكره منذ زمن طويل، بدأه بدراسة الديمقراطيّة وأنماط التديّن، لينتهي به البحث إلى نتيجة اعتبرها مهمّة. فقد توصّل في بحثه الأوّليّ إلى أنّ دراسة أنماط التديّن في المجتمعات العربيّة الحاليّة غير ممكنة من دون دراسة السياقات التاريخيّة، وإلى نتيجة مفادها أنّ الفرق بين أنماط التديّن في دول ومجتمعات معيّنة، يتحدّد بنسبة كبيرة بأنماط العلمنة الّتي تمّت والّتي يتعرّض لها المجتمع، وأنّ أنماط العلمنة يتحدّد فعلها بدرجات التديّن وأنواعه، ومدى هيمنة الثقافة الدينيّة في مجتمع من المجتمعات. لذلك كان واجبًا على بشارة، كما يؤكّد، أن يدرس أوّلًا الدين والتديّن، وما يميّزهما من ظواهر اجتماعيّة من أجل فهم العلمانيّة والعلمنة على نحو أكثر دقّة. فبدأ في الجزء الأوّل بدراسة الظاهرة الدينيّة، وما يميِّزها من ظواهر مترابطة لكي يكون توطئة للجزء الثاني من هذا المشروع الّذي تناول العلمانيّة والعلمنة من خلال الصيرورة التاريخيّة والنظريّات الفكريّة المختلفة.

لقد انتهج بشارة منهجيّة علميّة رصينة وهو يتعامل مع هذا المشروع؛ فهو يشدّد على دراسة الظاهرة الدينيّة قبل الانتقال إلى دراسة ظاهرة العلمانيّة والعلمنة في سياق تاريخيّ، ويراكم مختلف المداخل المعرفيّة والمحدّدات الفلسفيّة والرؤى السياسيّة والأفكار الدينيّة، لكي يتسنّى له التوصّل إلى فهم عميق ورصين لمختلف هذه الظواهر. ورأينا أيضًا كيف يفكّك مختلف هذه الموضوعات، ويقوم بإفراز مختلف التداخلات المعرفيّة المؤطّرة لها. فقد فكّك الظاهرة الدينيّة مرحلةً مرحلة، وقام بإفراز مختلف الظواهر المرتبطة بها، ومنها الأسطورة والسحر واللاهوت وفلسفة الدين والمقدّس والأخلاق، كما عرّج على المدارس الفكريّة والفلسفيّة والدينيّة والكلاميّة واللغويّة الّتي تطرّقت إلى الظاهرة الدينيّة من قريب أو من بعيد، ثمّ على التعريفات والمميّزات والتمظهرات للعلمانيّة والعلمنة في بيئات مختلفة وفي إطارات معرفيّة متعدّدة، لكي يقدّم لنا بناءً منهجيًّا ومعرفيًّا متكاملًا حول ظاهرة الدين والتديّن وعلاقتهما بالعلمانيّة والعلمنة.

عرض بشارة في الجزء الثاني من المجلّد الأوّل عصارة الفكر الأوروبّيّ، نافيًا أن يكون بصدد عرض لتاريخ الأفكار، لأنّ الأمر أكبر من عرضه في كتاب أو حتّى في موسوعة. لقد تتبّع في الحقيقة مسار نقد الدين وفرزه عن مجالات احتلّها على التوالي العلم والفلسفة، وهما يتطوّران بتطوّر إنجازات العقل البشريّ. لقد تعرّض الدين لخسائر وإخفاقات متلاحقة وهو يتصارع مع العلم، مستنجدًا تارة بالدولة ومتحالفًا معها، وتارةً أخرى بالفلسفة، محاولًا التأسيس للاهوت في مواجهة العلم التجريبيّ والمنطق العقليّ. وساهمت الاكتشافات العلميّة ومنجزات العقل، من جهة، في حصر الدين وخصخصته وترسيم حدوده، وهذه هي عمليّة العلمنة الّتي تعرّض لها، في حين ساهمت القراءات الأيديولوجيّة للاكتشافات العلميّة في نشوء العداء ضدّ الدين بوصفها مقدّمة لظهور العلمانيّات الأيديولوجيّة، من جهة أخرى.

بموازاة هذا الصراع وما ترتّب عليه، تعرّض الفكر أيضًا للعلمنة، وذلك بفرز عناصر الخرافة والغرائبيّة فيه، وبداية تشبّعه بقيم العلم والعقلانيّة والموضوعيّة في فهم العقائد والإيمان. كما تعرّض المجتمع أيضًا للعلمنة بنزع السحر عنه، وبتحرير الفضاء العامّ من العقائد الدينيّة، وبنشوء المجتمع المدنيّ الحرّ. وجرت علمنة الدولة بتحريرها من قبضة المؤسّسة الدينيّة ولاهوتِها وقِيمها وتحييدها عن الدين. حدثت هذه الصيغ من العلمنة نتيجة صيرورة تاريخيّة ضخمة في العلم والمعرفة والدولة الحديثة، وأفرزت على التوالي أنواعًا متباينة ومتعدّدة من العلمانيّات، منها الرخوة، أي الّتي تقبل الدين في مجال محدّد من دون نفيه أو معاداته، ومنها الصلبة أو الراديكاليّة الّتي تنفي الدين وتعاديه وتتصارع معه، ومنها العلميّة الّتي تسعى لحلّ وسط بين العلمانيّتين، لكن بالتأسيس لها علميًّا أو باعتبارها فلسفة علميّة[2].

 

نماذج ونظريّات العلمنة

انطلق بشارة في تتبّعه لمسار العلمنة المتعدّد من العصر الوسيط إلى الأزمنة الحديثة؛ بحيث تتبّع الصراع الدينيّ الداخليّ، وصراع الدولة والمؤسّسة الدينيّة، ومراحل الإصلاح الدينيّ أيضًا والانشقاقات الكبرى داخل الجسم الكنسيّ، والحروب الدينيّة، وانبثاق اللاهوت المسيحيّ، وحروب الردّة، والانشقاقات الأصوليّة وغيرها. كما عرّج على مرحلة نهضة الأنسنة والكاثوليكيّة، بما هي مرحلة نشوء التفكير الأَنسنيّ والأدبيّ، وذلك بالرجوع إلى الإرث اليونانيّ والرومانيّ وإحياء اللغات المحلّيّة ونشوء الدولة القوميّة، وكيف جرت مأسسة الدين أو تشكّل الكنائس القوميّة وازدهار الفنون وانتعاش العلوم الإنسانيّة وبداية أَنسنة الدين.

شكّلت مرحلة الاكتشافات العلميّة منعرجًا ملحوظًا في تاريخ العلم ونقد الدين، وقد توقّف بشارة عند أهمّ الاكتشافات العلميّة وتأثيرها في الدين والعلمنة معًا، ونتائج ذلك في نشوء منطق الحداثة. وانتقل إلى مرحلة التنوير بوصفها إحدى مراحل تطوّر العقل المعرفيّ من دون أن يقاربها على أنّها حقبة تاريخيّة، بل صيرورة فكريّة تاريخيّة متواصلة ومتجدّدة. ودرس أيضًا، بكثير من التفصيل، مراحل ما بعد التنوير ونقد الدين والتنوير معًا، ثمّ مراحل نشوء العلمانيّة بوصفها أيديولوجيا، ونقد ما بعد الحداثة للعقل والتنوير عمومًا، ليتوقّف في الفصل الأخير عند موضوع الليبراليّة ونقدها، خصوصًا في موقفها من الدين والعلمانيّة. وبذلك وصل بشارة إلى تدقيق معرفيّ وتاريخيّ للعلمنة بما هي صيرورة متباينة ومتعدّدة من مقاربة الدين ودوره وحدوده عبر التاريخ الفكريّ، وتحديد مجال العلم الدنيويّ، والعلمانيّة بما هي تحييد الدين عن الدولة، ومنتقدًا نظريّة الفصل المُختَزَلَة والتنميطيّة بين الدين والدولة.

شكّلت مرحلة الاكتشافات العلميّة منعرجًا ملحوظًا في تاريخ العلم ونقد الدين، وقد توقّف بشارة عند أهمّ الاكتشافات العلميّة وتأثيرها في الدين والعلمنة معًا، ونتائج ذلك في نشوء منطق الحداثة...

استمرّ بشارة في عرض نماذج العلمانيّة ونظريّات العلمنة في الجزء الثاني من المجلّد الثاني. فقد بدأها بعرض نظريّة التأريخ[3] بما هي علمنة للتاريخ، وعَمَل التاريخ كآليّة علمانيّة بما أنّها تقدّم لنا رؤية أخرى عن العالم غير تلك الّتي تقدّمها لنا المنظومة الدينيّة. وانتقد الأنموذج النظريّ للعلمانيّة الأوروبّيّة بما هي حالة استثنائيّة في نشوء الفكر العلميّ، ونقْد الدين، ونشوء الفكر النهضويّ والحداثيّ في ما بعد، واعتبر أنّ جميع المجتمعات تمرّ بتجارب علمنة مختلفة، وأنّ العلمانيّة الأوروبّيّة مختلفة أيضًا بعضها عن البعض الآخر، وأنّ العلمانيّة علمانيّات متباينة.

وعرض في مرحلة أخرى، نماذج تاريخيّة من التجارب العلمانيّة، خصوصًا في الفضاء الأوروبّيّ، ومختلف النظريّات المعرفيّة للعلمنة وكيفيّة تحوّلها إلى أيديولوجيا علمانيّة. كما قارن بين واقع العلمنة في التجربتين الأوروبّيّة والأمريكيّة، وبيّن تأثير أنماط التجارب الدينيّة وأنماط الوعي الدينيّ في خلق أنماط من العلمانيّات المتباينة، وفي كيفيّة نشوء الديانات السياسيّة أو المدنيّة أو ما سمّاه بشارة بأشباه الديانات البديلة. لكي يقدّم، في الأخير، أنموذجه النظريّ في العلمنة والعلمانيّة، وهو أنموذج تركيبيّ يشمل مختلف المساهمات المعرفيّة والنظريّة المهمّة لنظريّة العلمنة ونقد تعميماتها وتنميطاتها المختلفة.

 

بشارة بوصفه مثقّفًا عموميًّا 

ينتمي عزمي بشارة إلى قائمة المثقّفين العموميّين، والمفكّرين العرب الطموحين إلى إحداث طفرة انتقاليّة معرفيّة وسياسيّة نوعيّة حديثة في السياق العربيّ. فهو يجمع بين العمل الفكريّ والسياسيّ، في أنموذج المثقّف العموميّ القريب من أنموذج المثقّف العضويّ بتعبير غرامشي، لكنّه يتعدّاه إلى المثقّف الّذي يتابع قضايا المجتمع ويحلّلها من زاوية النظر المعرفيّة التركيبيّة، ثمّ يشارك في صوغ الرأي العامّ في القضايا الشائكة المتعدّدة[4]. ولا شكّ في أنّ مسيرته السياسيّة والفكريّة حافلة بإنجازات عديدة ومتنوّعة، سواء في مسيرته بوصفه مناضلًا سياسيًّا، أو قائدًا لأحزاب سياسيّة ومبادرات مدنيّة، أو مؤسّسًا لعديد من المبادرات الفكريّة المهمّة، مثل «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» الّذي يرأسه في الوقت الحاليّ. ونُشِرَتْ له عدّة كتب ومؤلّفات في الفكر السياسيّ، والنظريّة الاجتماعيّة، والفلسفة، إضافة إلى بعض المؤلّفات الأدبيّة. وحاز «جائزة ابن رشد للفكر الحرّ» عام 2002، و«جائزة حقوق الإنسان» من مؤسّسة «Global Exchange» في الولايات المتّحدة الأمريكيّة عام 2003. فهو إذًا يجمع بين التجربة السياسيّة والكفاءة البحثيّة والتبحّر الواسع في العلوم الاجتماعيّة والسياسيّة، ما يجعله يتعامل مع موضوع العلمانيّة والعلمنة بنضج معرفيّ كبير.

قمنا في دراستنا لمشروع «الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ» بتتبّع مجلّدات المشروع الثلاثة الحاليّة على حدة، والّتي تقع في جزأين؛ متوقّفين عند الأفكار الأساسيّة في كلّ فصل من فصول الجزأين بالنقاش والسؤال، محاولين فهم منطق المؤلّف في تنظيمه للأفكار والأحداث والتواريخ، وكذلك في كيفيّة استخلاصه النتائج المعرفيّة. وكان غرضنا الأساسيّ هو تتبّع مشروع بشارة وفهم نظريّته، ثمّ النظر في مدى جدّيّة البحث وتميّزه المعرفيّ.

لذلك، فقد قسّمنا كتابنا هذا إلى ثلاثة فصول رئيسة ضمّت مجلّدات المشروع الثلاثة وبالترتيب نفسه، لوعينا بأهمّيّة التركيب المعرفيّ الّذي نظم به المؤلّف مجلّداته الثلاثة، ومن أجل الاحتفاظ بتراتبيّة الأفكار وعرضها ونقدها تباعًا. ثمّ أرفقنا الكتاب بمقدّمة وخاتمة تركيبيّة، وعنونّاه بـ: «نظريّة العلمانيّة عند عزمي بشارة: نقد السرديّات الكبرى للعلمنة والعلمانيّة»، وهو عنوان رأينا فيه أهمّيّة لاختزاله أطروحة بشارة الأساسيّة.

 


إحالات

[1] انظر: مصطفى أيت خرواش، "مراجعة كتاب: الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ، الجزء الأوّل: الدين والتديّن"، تبيّن، العدد 11 (شتاء 2015).

[2] العلمانيّة ’الصلبة‘ و’الرخوة‘ (أو ’المحايدة‘) هما مصطلحان يعبّران عن نماذج علمانيّة مختلفة، مثل أنموذج العلمانيّة الفرنسيّة الصلبة، أو أنموذج العلمانيّة الأمريكيّة المحايدة، وبينهما نماذج علمانيّة متباينة: مثل الأنموذج البريطانيّ أو الأنموذج التركيّ أو الهنديّ. وهذه تصنيفات قام بشارة بفرزها بعدما بيّن مختلف التمايزات بين التجارب العلمانيّة المتعدّدة، والّتي لا يمكن تصنيفها فقط إلى أنموذجين: شموليّ وجزئيّ، كما ذهب إلى ذلك الراحل عبد الوهّاب المسيري، انظر: عبد الوهّاب المسيري، العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة، ط 4 (القاهرة: دار الشروق، 2013).

[3] بشأن هذه النظريّات، انظر: وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ: اتّجاهات- مدارس- مناهج (الدوحة/ بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2012).

[4] استخدم عزمي بشارة بكثرة مصطلح ’المثقّف العموميّ‘ في كتاباته، وهو مفهوم متجاوز لمصطلح المثقّف العضويّ في صورته الاحتجاجيّة وليس النقديّة. فالمثقّف العموميّ هو الّذي ينغمس في القضايا العموميّة، لكن من دون أن يبقى حبيس التنظير الاحتجاجيّ والفعل الثوريّ باعتباره طريقة التغيير الوحيدة، وهو كذلك يؤمن بالتنظير الفكريّ والسياسيّ بوصفه مدخلًا أساسيًّا لترشيد الفعل الاحتجاجيّ والتغيير الاجتماعيّ.

 


 

مصطفى أيت خرواش

 

 

 

باحث في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة، وطالب دكتوراه في في «كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة» في «جامعة ابن طفيل» في المغرب.